فصل: تفسير الآيات (65- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (65- 67):

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي جاوزوا الحد، وأصل السبت: القطع، قيل: سمي يوم السبت بذلك لأن الله تعالى قطع فيه الخلق، وقيل: لأن اليهود أمروا فيه بقطع الأعمال، والقصة فيه: أنهم كانوا زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها، حتى لا يرى الماء من كثرتها، فإذا مضى السبت تغرقن ولزمن مقل البحر، فلا يرى شيء منها فذلك قوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} [163- الأعراف].
ثم إن الشيطان وسوس إليهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر، وشرعوا منه إليها الأنهار، فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار، فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض، فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا يسوقون الحيتان إلى الحياض يوم السبت ولا يأخذونها ثم يأخذونها يوم الأحد، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشخوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرءوا على الذنب وقالوا: ما نري السبب إلا وقد أحل لنا فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا واشتروا وكثر مالهم، فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفا، فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وعبروا بذلك سنتين، فلعنهم داود عليه السلام، وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم، فلما أبطؤوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميعا قردة لها أذناب يتعاوون، قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا.
قال الله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} أمر تحويل وتكوين {خَاسِئِينَ} مبعدين مطرودين، وقيل: فيه تقديم وتأخير أي كونوا خاسئين قردة ولذلك لم يقل خاسئات، والخسأ الطرد والإبعاد، وهو لازم ومتعد يقال: خسأته خسا فخسأ خسوءا مثل: رجعته رجعا فرجع رجوعا.
{فَجَعَلْنَاهَا} أي جعلنا عقوبتهم بالمسخ {نَكَالا} أي عقوبة وعبرة، والنكال اسم لكل عقوبة ينكل الناظر من فعل ما جعلت العقوبة جزاء عليه، ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع، وأصله من النكل وهو القيد ويكون جمعه: أنكالا {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قال قتادة: أراد بما بين يديها يعني ما سبقت من الذنوب، أي جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن أخذ الصيد {وَمَا خَلْفَهَا} ما حضر من الذنوب التي أخذوا بها، وهي العصيان بأخذ الحيتان، وقال أبو العالية والربيع: عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم أن يستنوا بسنتهم، وما الثانية بمعنى من، وقيل: {جعلناها} أي جعلنا قرية أصحاب السبت عبرة لما بين يديها أي القرى التي كانت مبنية في الحال {وَمَا خَلْفَهَا} وما يحدث من القرى من بعد ليتعظوا، وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: فجعلناها وما خلفها، أي ما أعد لهم من العذاب في الآخرة، وجزاء لما بين يديها أي لما تقدم من ذنوبهم باعتدائهم في السبت {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون مثل فعلهم.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} البقرة هي الأنثى من البقر يقال: هي مأخوذة من البقر وهو الشق، سميت به لأنها تشق الأرض للحراثة.
والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا، واشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه، فأمرهم الله بذبح بقرة فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي: تستهزئ بنا، نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح البقرة!! وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه، قرأ حمزة هزوا وكفوا بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتثقيل، وبترك الهمزة حفص {قَالَ} موسى {أَعُوذُ بِاللَّهِ} أمتنع بالله {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي من المستهزئين بالمؤمنين وقيل: من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال لأن الجواب لا على وفق السؤال جهل، فلما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل استوصفوها، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وكانت تحته حكمة، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة اتى بها إلى غيضة وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى تكبر، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن وكان بارا بوالدته، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث يصلي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطي والدته ثلثه، فقالت له أمه يوما: إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال: أعزم بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي إلي فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت: أيها الفتى البار بوالدتك اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة يومئذ ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكا ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بر بوالدته، وكان الله به خبيرا فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضى والدتي فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضى أمي فردها إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأمرت أمك فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة على أن أستأمرها فقال الملك: فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى، فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير، فأمسكوها، وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفون موسى حتى وصف لهم تلك البقرة، مكافأة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة فذلك.

.تفسير الآيات (68- 69):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما صفتها {قَالَ} موسى {إِنَّهُ يَقُولُ} يعني فسأل الله تعالى فقال: إنه، يعني أن الله تعالى يقول {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة ولا صغيرة، والفارض المسنة التي لا تلد، يقال منه: فرضت تفرض فروضا، والبكر الفتاة الصغيرة التي لم تلد قط، وحذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض عَوَان وسط نصف {بَيْنَ ذَلِكَ} أي بين السنين يقال عونت المرأة تعوينا: إذا زادت على الثلاثين، قال الأخفش العوان: التي لم تلد قط، وقيل: العوان التي نتجت مرارا وجمعها عون {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قال ابن عباس: شديدة الصفرة، وقال قتادة: صاف، وقال الحسن: الصفراء السوداء، والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال: أصفر فاقع، وأسود حالك وأحمر قانئ، وأخضر ناضر، وأبيض بقق للمبالغة، {تَسُر الناظرين} إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها.

.تفسير الآيات (70- 73):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أسائمة أم عاملة {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ولم يقل تشابهت لتذكير لفظ البقر كقوله تعالى: {أعجاز نخل منقعر} [20- القمر] وقال الزجاج: أي جنس البقر تشابه، أي التبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لو لم يستثنوا لما بينت لهم إلى آخر الأبد».
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} مذللة بالعمل يقال: رجل ذلول بين الذل، ودابة ذلول بينة الذل {تُثِيرُ الأرْضَ} تقلبها للزراعة {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست بساقية {مُسَلَّمَة} بريئة من العيوب {لا شِيَةَ فِيهَا} لا لون لها سوى لون جميع جلدها قال عطاء: لا عيب فيها، وقال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بالبيان التام الشافي الذي لا إشكال فيه، وطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلا مع الفتى فاشتروها بملء مسكها ذهبا، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} من غلاء ثمنها وقال محمد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها، وقيل {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة، واسم القتيل عاميل {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخلت الألف، مثل قوله: {اثاقلتم} قال ابن عباس ومجاهد: معناه فاختلفتم، وقال الربيع بن أنس: تدافعتم، أي يحيل بعضكم على بعض من الدرء وهو الدفع، فكان كل واحد يدفع عن نفسه {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} أي مظهر {مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فإن القاتل كان يكتم القتل.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} يعني القتيل ببعضها أي ببعض البقرة، واختلفوا في ذلك البعض، قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين: ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقتل، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى، ويركب عليه الخلق، وقال الضحاك: بلسانها، وقال الحسين بن الفضل: هذا أدل بها لأنه آلة الكلام، وقال الكلبي وعكرمة: بفخذها الأيمن، وقيل: بعضو منها لا بعينه، ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه، أي عروق العنق، تشخب دما وقال قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث، وفي الخبر: «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة» وفيه إضمار تقديره: فضرب فحيي {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} كما أحيا عاميل، {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قيل تمنعون أنفسكم من المعاصي.
أما حكم هذه المسألة في الإسلام: إذا وجد قتيل في موضع ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان- واللوث: أن يغلب على القلب صدق المدعي، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء فتفرقوا عن قتيل يغلب على القلب أن القاتل فيهم، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء للقتيل لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على القلب أنهم قتلوه- فادعى الولي على بعضهم، يحلف المدعي خمسين يمينا على من يدعي عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الأيمان عليهم، ثم بعدما حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه إن ادعوا قتل خطأ، وإن ادعوا قتل عمد فمن ماله، ولا قود على قول الأكثرين وذهب بعضهم إلى وجوب القود، وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأحمد، وإن لم يكن على المدعى عليه لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ثم هل يحلف يمينا واحدة أم خمسين يمينا؟ فيه قولان: أحدهما يمينا واحدة كما في سائر الدعاوي والثاني يحلف خمسين يمينا تغليظا لأمر الدم، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: لا حكم للوث ولا يزيد بيمين المدعي وقال: إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا ثم يأخذ الدية من سكانها، والدليل على أن البداية بيمين المدعي عند وجود اللوث: ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما فقتل عبد الله بن سهل فانطلق هو وعبد الرحمن أخو المقتول وحويصة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله بن سهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم» فقالوا يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» فقالوا يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فعزم النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده وفي لفظ آخر فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده قال بشير بن يسار: قال سهل: «لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض في مربد لنا»، وفي رواية: «لقد ركضتني ناقة حمراء من تلك الفرائض في مربد لنا» أخرجه مسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب.
وجه الدليل من الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لتقوي جانبهم باللوث، وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلا في خيبر، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وأهل خيبر، وكان يغلب على القلب أنهم قتلوه، واليمين أبدا تكون حجة لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه من حيث أن الأصل براءة ذمته وكان القول قوله مع يمينه.